كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فبينا هو في ذلك يومًا من الأيام إذ قيّض الله ملكًا في صورة آدمي، فلما رآه داوُد تقدم إليه على عادته فسأله، فقال له الملك: نِعمَ الرجل هو لولا خصلة فيه.
فراع داوُد ذلك وقال: ما هي يا عبد الله؟ قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال: فتنبه لذلك، وسأل الله تعالى أن يسبب له سببًا يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع، وعلمه صنعة الدروع، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها.
فيُقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين، ويقال أيضًا: إنما ألان الحديد في يده لما أُعطي من القوّة.
{أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} دروعًا كوامل واسعات {وَقَدِّرْ فِي السرد} أي لا تجعل المسامير دقاقًا فتغلق ولا غلاظًا فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك: وهو أول من اتخذ الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح، والسرد: صنعة الدرع، ومنه قيل لصانعها: السراد والزراد والدرع المسرودة، قال أبو ذويب:
وعليهما مسرودتان قضاهما ** داوُد أو صنع السوابغ تُبّع

وأصله الوصل والنظم، ومنه قيل للخرز: سرد وللأشفى مسرد وسراد. قال الشماخ:
كما تابعت سرد العنان الخوارز... وسرد الكلام.
{واعملوا} يعني داوُد وآله {صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح} قراءة العامة بنصب الحاء، أي وسخرنا لسليمان الريح، وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم بالرفع على جر حرف الصفة.
{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا} من انتصاف النهار إلى الليل مسير {شَهْرٌ} فجعل ما تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين، وقال وهب: ذُكر لي أن منزلًا بناحية دجلة مكتوب فيه كتابة كتبها بعض صحابة سليمان عليه السلام، إما منَ الجن وإما من الإنس بحرّ نزلناه وما بنيناه، مبنيًا وجدناه غدوناه من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون بالشام.
قال الحسن: لما شغلت نبي الله سليمان بن داوُد الخيل حتّى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل، فأبدله الله تعالى مكانها خيرًا وأسرع له، تجري بأمره كيف يشاء {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} وكان يغدو من إيليا فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل.
وقال ابن زيد: كان له عليه السلام مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه من الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر، فلا يدري القوم إلاّ وقد أظلهم معه الجيوش.
ويروى أن سليمان عليه السلام سار من أرض العراق غاديًا فقال بمدينة مرو، وصلّى العصر بمدينة بلخ تحمله وجنوده الريح ويظلهم الطير، ثم سار من مدينة بلخ متخللًا بلاد الترك، ثم جازهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثله. ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض القندهار، وخرج منها إلى مكران وكرمان ثم جازها حتى أتى أرض فارس فنزلها أيامًا وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى الشام، وكان مستقره بمدينة تدمر، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر، وفي ذلك يقول النابغة:
ألا سليمان إذ قال الإله له ** قم في البرية فاحددها عن الفندِ

وخيس الجن إني قد أذنت لهم ** يبنون تدمر بالصفاح والعمدِ

ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر، أنشأها بعض أصحاب سليمان بن داوُد عليهما السلام:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا ** نروح إلى الأوطان من أرض تدمرِ

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا ** مسيرة شهر والغدوّ لآخر

أُناس شروا لله طوعًا نفوسهم ** بنصر ابن داوُد النبي المطهّرِ

لهم في معالي الدين فضل ورفعة ** وإن نسبوا يومًا فمن خير معشرِ

متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت ** مبادرة عن شهرها لم تقصّرِ

تظلهمُ طير صفوف عليهم ** متى رفرفت من فوقهم لم تنفرِ

قوله: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} وأذبنا له عين النحاس أُسيلت له ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان.
{وَمَن يَزِغْ} يملْ ويعدل {عَنْ أَمْرِنَا} الذي أمرناه به من طاعة سليمان {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} في الآخرة. عن أكثر المفسرين، وقال بعضهم: في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكّل بهم ملكًا بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته.
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ} مساجد ومساكن وقصور، والمحراب: مقدم كل مسجد، ومجلس وبيت. قال عدي:
كدُمى العاج في المحاريب أو كالـ ** ـبيض في الروض زهره مستنير

وكان مما عملوا له من ذلك بيت المقدس، وقصته وصفته على ما ذكره أهل البصر بالسير أن الله تعالى بارك في نسل إبراهيم عليه السلام حتى جعلهم في الكثرة غاية لا يُحصون، فلما كان زمن داوُد عليه السلام لبث فيهم ثلاثين سنة بأرض فلسطين، وهم كل يوم يزدادُون كثرة، فأُعجب داوُد بكثرتهم فأمر بعدّهم، فكانوا يعدون زمانًا من الدهر حتى أيسوا وعجزوا أن يحيط علمُهُم بعدد بني إسرائيل، فأوحى الله إلى داوُد: إني قد وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح ولده فصدقني وائتمر أمري أن أُبارك له في ذريته، حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء وحتى لا يحصيهم العادّون، وإني قد أقسمت أن أبتليهم ببلية يقل منها عددهم ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم وخيرّه بين أن يعذبهم بالجوع والقحط ثلاث سنين، وبين أن يُسلط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر، وبين أن يُرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام فجمع داوُد بني إسرائيل وأخبرهم بما أوحى الله إليه وخيره فيه، فقالوا: أنت أعلم بما هو أيسر لنا وأنت نبينا فانظر لنا، غير أن الجوع لا صبر لنا عليه وتسليط العدو أمر فاضح، فإن كان لابد فالموت. فأمرهم داوُد عليه السلام أن يتجهزوا للموت، فاغتسلوا وتحنطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين، وأمرهم أن يضجّوا إلى الله تعالى ويتضرعوا إليه لعله يرحمهم، وذلك في صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. قال: وارتفع داوُد عليه السلام فوق الصخرة فخرّ ساجدًا يبتهل إلى الله تعالى فأرسل الله فيهم الطاعون. فأهلك منهم في يوم وليلة ما لم يتفرغوا من دفنهم إلاّ بعد مدة شهرين. فلما أصبحوا من اليوم الثاني سجد داوُد وسجدوا معه إلى طلوع الشمس فلم يرفعوا رءوسهم حتى كشف الله عنهم الطاعون.
قالوا: فلما أن شفّع الله تعالى داوُد في بني إسرائيل في ذلك المكان جمع داوُد بني إسرائيل بعد ثلاثة فقال لهم: إن الله سبحانه قد منّ عليكم ورحمكم فجددوا له شكرًا. فقالوا: كيف تأمرنا. قال: آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجدًا لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذاكر.
فلما أرادوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم في ثبوتهم فقال لبني إسرائيل: إنّ لي فيه موضعًا أنا محتاج إليه ولا يحل لكم أن تحجبوني عنه. فقالوا له: يا هذا ما أحد في بني إسرائيل إلاّ وله في هذا الصعيد حق مثل حقك، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه. فقال: أنا لا أعرف حقي وأنتم لا تعرفون. فقالوا له: إما إن ترضى وتطيب نفسًا، وإلاّ أخذناه كرهًا. فقال لهم: أوتجدون ذلك في حكم الله وفي حكم داوُد؟ قال: فرفعوا خبره إلى داوُد فقال: أرضوه. فقالوا: بكم نأخذه يا نبي الله؟ قال: خذوه بمائة شاة. فقال الرجل: زد. فقال داوُد: بمائة بقر. قال: زد. قال: مائة إبل. قال: زدني فإنّ ما تشتريه لله تعالى. فقال داوُد: أما إذا قلت هذا، فاحتكم أُعطكه فقال: تشتري مني بحائط مثله زيتونًا ونخلًا وعنبًا. قال: نعم. فقال: تشتريه لله فلا تبخل. قال: سل ما شئت أُعطكه، وإن شئت اؤاجرك نفسي قال: وتفعل ذلك يا نبي الله؟ قال: نعم إذا شئت. قال: أنت أكرم على الله من ذلك، ولكنك تبني حوله جدارًا مشرفًا ثم تملؤه ذهبًا، وإن شئت ورقًا. قال داوُد: هو هين.
فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال: هذا هو التائب المخلص. ثم قال لداوُد: يا نبي الله لئن يغفر الله لي ذنبًا واحدًا أحبُّ إلي من كل شيء وهبته لي، ولكني كنت أُجرّبكم.
فأخذوا في بناء بيت المقدس، وكان داوُد عليه السلام ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى الله تعالى إلى داوُد عليه السلام: إنّ هذا بيت مقدّس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك، ولكن ابن لك أُملكه بعدك اسمه سليمان، أُسلّمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده، وذلك صيته وذكره لك باقيًا.
فصلوا فيه زمانًا، وداوُد يومئذ ابن سبع وعشرين ومئة سنة، فلما صار من أبناء أربعين ومئة سنة توفّاه الله واستخلف سليمان. فأحبّ بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له. فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضًا، وأنزل كل ربض منها سبطًا من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطًا.
فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد، فوجّه الشياطين فرقًا، فرقًا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقًا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقًا يأتونه بالمسك والعنبر، فأُتي من ذلك بشيء لا يُحصيه إلاّ الله تعالى، ثم أحضر الصنّاعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحًا، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء فكانوا يعالجونها، فتصوّت صوتًا شديدًا لصلابتها، فكره سليمان تلك الأصوات.
فدعا الجن وقال لهم: هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟.
فقالوا: يا رسول الله، ليس في الجن أكثر تجارب، ولا أكثر علمًا من صخر العفريت، فأرسل إليه من يأتيك به. فطبع سليمان خاتمه طابعًا وكان يطبع للشياطين بالنحاس، ولسائر الجن بالحديد وكان إذا طبع أحدهما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف، فكان لا يراه أحد: جني ولا شيطان إلاّ انقاد له بإذن الله عزّت قدرته.
فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور، فأروه الطابع، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفًا، فأقبل مسرعًا مع الرسل حتى دخل على سليمان عليه السلام. فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه. فقالوا: يا رسول الله إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس. فقال له سليمان عليه السلام: ما رضيت بتمردك عليّ في ترك المجيء إليّ طائعًا حتى صرت تسخر بالناس؟.
فقال: يا نبي الله إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجّبًا مما كنت أسمع وأرى في طريقي. فقال سليمان: وما ذاك؟.
قال: اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها، فسقى البغلة وملأ الجرة، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة.
ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله، فضحكت من غفلته وجهله.
ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء، وقد كنت عهدت رجلًا دفن في موضع فراشها ذهبًا كثيرًا في الدهور الخالية، فرأيتها تموت جوعًا وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها.
ومررت برجل في بعض المدن، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه، فصار يتطبّب للناس، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علّة إلاّ أمره بأكل البصل وإنه لأضرّ شيء، حتى إنّ ضره ليصل إلى الدماغ، فضحكت منه.
ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلّها يكال كيلًا، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزنًا فضحكت من ذلك.
ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى الله تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة، فملَّ منهم قوم وقاموا، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس، وغشيت الذين جاءوا فجلسوا، فضحكت؛ تعجبًا للقضاء والقدر.
قالوا: فقال سليمان له: هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئًا تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت؟ فقال: نعم يا نبي الله، أعرف حجرًا أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب. فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة، ثم تسرّح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى يُنقبه به ليصل إلى فراخه.
قال: فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يومًا وليلة، ثم سرح العقاب دون الفراخ، فمرّ العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة، وثقب به الصندوق حتى وصل إلى فراخه. فوجه سليمان مع العقاب نفرًا من الجن حتى أتوه به منه قدر ما علم أن فيه كفاية، واستعمل ذلك في أدوات الصناعين، فسهل عليهم نحتها من غير تصويت وهو الحجر الذي يستعمل في نقش الخواتيم وثقب الجواهر إلى اليوم، وهو حجر عزيز ثمين.
قال: فبنى سليمان عليه السلام المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمّده بأساطين المها الصافي، وسقفه بألواح الجواهر الثمنية وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروز، فلم يكن يومئذ بيت في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.
فلما فرغ منه جمع إليه أخيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله وأنّ كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدًا.
وقالوا: من أعاجيب ما اتخذ سليمان عليه السلام ببيت المقدس أنْ بنى بيتًا وطيّن حائطه بالخضرة وصقله، فكان إذا دخله الورِع البرّ استبان خياله في ذلك الحائط أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود. فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة.
ونصب في زاوية من زوايا المسجد عصا أبنوس، فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم يضره مسها، ومن مسها من غيرهم احترقت يده.
وروى الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثًا فأعطاه اثنين وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه الله الثالثة: سأله حكمًا يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أنْ لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلاّ خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أُمه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك».
قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السلام حتى غزا نبوخذ نصر فخرب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق.